العلاقة بين التسويف والخوف من الفشل
مسار السعادة الخامس: الإنجاز وتحقيق الأهداف

العلاقة بين التسويف والخوف من الفشل

هل يمكن أن تكون المشكلة مجرد خوف من الفشل؟!

ربما تبدو عادة التسويف مجرد مشكلة في إدارة الوقت أو ضعف في الالتزام، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. كثير من الناس لا يدركون أن وراء التأجيل المزمن الذي يعانون منه مشاعر عميقة من القلق والخوف—خصوصًا الخوف من الفشل. في دراسة نُشرت عام 2012 في "مجلة العلاج العقلاني-الانفعالي السلوكي"، قام الباحثون Haghbin وMcCaffrey وPychyl بالغوص في عمق العلاقة بين الخوف من الفشل وسلوك التسويف، وخرجوا بنتائج مذهلة توضح كيف يمكن أن يكون هذا الخوف محركًا خفيًا وراء تأجيلنا المتكرر لمهام نعلم جيدًا أنها مهمة.

 

 الخوف من الفشل... أكثر تعقيدًا مما نظن

الخوف من الفشل ليس شعورًا بسيطًا، بل يتكوّن من عدّة أبعاد نفسية تؤثر على سلوك الإنسان بشكل مختلف. بحسب ما توضحه الدراسة، فإن هذا الخوف لا ينبع فقط من القلق من النتيجة، بل من مشاعر داخلية معقدة تشمل الخوف من خيبة الأمل، فقدان احترام الذات، غضب الآخرين، والقلق من فقدان الدعم الاجتماعي. كل واحد من هذه الأبعاد يشكل تجربة فريدة، تجعل دوافع التسويف تختلف من شخص لآخر.
فمثلًا، إن كنت تخشى أن يؤدي الفشل إلى فقدان تقدير من حولك لك، فقد تجد نفسك تتجنب المهام التي قد تعرضك لذلك. حين نُمعن النظر، نكتشف أن الطالب الذي يخشى خيبة أمل والديه قد لا يبدأ دراسته إلا متأخرًا، ليس لأنه كسول، بل لأنه يخشى ألّا يكون على قدر توقعاتهم. عندما ننظر إلى هذه الأبعاد المتعددة، نفهم أن التسويف ليس دائمًا قرارًا واعيًا، بل رد فعل دفاعي تجاه مشاعر قد تكون مؤلمة جدًا. وهذا يدفعنا إلى إعادة التفكير في كيفية تعاملنا مع التسويف باعتباره عَرَضًا لحالة داخلية معقدة، لا مجرد عادة سلبية.

 

   الخوف من الفشل ليس دائمًا سلبيًا

ليس كل خوف يؤدي إلى التسويف، فقد يكون دافعًا قويًا نحو العمل أحيانًا. الدراسة تميز بين نوعين من الخوف من الفشل: النوع الوظيفي الذي يحفّز الشخص للعمل الجاد تجنبًا للفشل، والنوع غير الوظيفي الذي يؤدي إلى الانسحاب والتأجيل. هذا التمييز مهم، لأنه يوضح أن الخوف لا يكون دائمًا معيقًا، بل قد يكون حافزًا، إذا ما تمت إدارته بطريقة صحيحة. فمثلاً، الموظف الذي يخشى أن يفشل في مشروعه قد يدفعه هذا الخوف للعمل لساعات إضافية من أجل النجاح، في حين أن موظفًا آخر، يربط الفشل بالشعور بالعار أو بفقدان قيمته الذاتية، قد يهرب من المهمة كلها ويؤجلها إلى آخر لحظة. المجتمع نفسه يمكن أن يكرّس هذه الفروقات، فكلما ارتبط الفشل بالعار والعقاب، زاد احتمال أن يؤدي إلى التسويف بدلاً من العمل. ولهذا من المهم أن نُعيد فهمنا للخوف، لا كعدو يجب التخلص منه، بل كإشارة يمكن أن توجّهنا نحو ما نهتم به فعلاً إذا تعاملنا معه بعقلانية.

 

  كيف نفكر بالفشل يحدد كيف نتصرف

يصبح الخوف من الفشل مشكلة حقيقية عندما نُفسّره على أنه تهديد لهويتنا أو قيمتنا الشخصية. أحد أبرز نتائج الدراسة أن الأشخاص الذين يرون الفشل كدليل على عدم الكفاءة أو الذكاء، يكونون أكثر عرضة للتسويف، ليس لأنهم لا يملكون القدرة، بل لأنهم يخشون التأكيد على هذا الاعتقاد الداخلي السلبي. هذا النمط من التفكير يُعرف في علم النفس بالـ “self-worth contingency” أي ربط القيمة الذاتية بالنجاح أو الفشل. على سبيل المثال، طالب يعتقد أن رسوبه في اختبار ما يعني أنه شخص غير ذكي، سيجد صعوبة في البدء في الدراسة، لأن مجرد محاولة الدراسة تذكّره بهذا الخطر. لكنه ليس وحده، فالكثيرون يربطون الفشل بالشعور بعدم الاستحقاق، ما يجعل الفشل مرعبًا. عندما نضع هذا في إطار مجتمعات تُعلي من شأن الأداء والنتائج، نفهم لماذا يختبئ الناس خلف التسويف؛ فهو يمنحهم حماية مؤقتة من مواجهة هذا التهديد. لذلك فإن إعادة تفسير الفشل على أنه تجربة تعليمية وليس تهديدًا، يمكن أن يكون خطوة كبيرة نحو التخلّص من التسويف.

 

  التسويف ليس ضعفًا بل وسيلة للهروب من المشاعر

التسويف في كثير من الأحيان ليس نتيجة ضعف في الانضباط أو نقص في المهارات، بل آلية لتنظيم المشاعر السلبية. الدراسة تشير إلى أن المهام التي ترتبط بمشاعر غير سارة، مثل القلق أو الإحراج أو الخزي، تصبح أهدافًا مؤجلة في عقل الشخص كنوع من "الهروب العاطفي". فعندما نشعر بالضيق من مجرد التفكير في المهمة، نختار – ولو لا واعيًا – أن نؤجلها كي لا نواجه تلك المشاعر. وهذا يعطي شعورًا بالراحة المؤقتة، لكنه يزيد المشكلة لاحقًا. مثلًا، شخص يشعر بالخوف من تقديم عرض أمام الجمهور قد يؤجل التحضير لهذا العرض، ليس لأنه لا يهتم، بل لأنه يخشى المشاعر المرتبطة بالتجربة. وهذا النمط من التنظيم الانفعالي المعتمد على التجنّب يظهر كثيرًا في حالات القلق الاجتماعي والاكتئاب. وهذا يوضح لنا أن التسويف في جوهره، رد فعل انفعالي أكثر منه قرار عقلاني. لذلك، فإن تقنيات العلاج المعرفي السلوكي التي تعلّم الأفراد كيفية تنظيم مشاعرهم بطريقة صحية، يمكن أن تكون فعالة للغاية في معالجة التسويف المرتبط بالخوف.


  خطوات عملية للتغلب على التسويف الناتج عن الخوف

بعد أن فهمنا العلاقة المعقدة بين الخوف من الفشل والتسويف، تأتي الخطوة التالية: كيف نتجاوز هذا النمط؟ الدراسة توصي بمجموعة من الاستراتيجيات التي تركز على تغيير طريقة التفكير وتنظيم المشاعر. أول هذه الخطوات هو إعادة تأطير الفشل كفرصة للتعلّم والنمو، وليس تهديدًا للهوية. عندما نتوقف عن اعتبار الفشل كارثة، يصبح التعامل معه أسهل. ثانيًا، استخدام تقنيات عملية مثل تقسيم المهام إلى خطوات صغيرة، وتحديد وقت محدد للعمل، يساعد في تقليل الشعور بالرهبة. مثلاً، عندما نبدأ بكتابة فقرة واحدة فقط من تقرير بدلًا من التركيز على التقرير بأكمله، نشعر بتحفيز أكثر واستعداد نفسي أفضل. بالإضافة إلى ذلك، تطوير مهارات الوعي الذاتي والانتباه الذهني (Mindfulness) يساعدنا في ملاحظة متى نبدأ بالتسويف ولماذا. كل هذه الأدوات لا تحل المشكلة دفعة واحدة، لكنها تُشكّل خارطة طريق واقعية للخروج من دائرة التسويف المؤلمة. والأهم من كل ذلك، أن نفهم أن التسويف ليس فشلاً شخصيًا، بل قابل للتغيير والنمو.

 

  الخوف... صديق أم عدو؟

"الفشل ليس النهاية، بل أحيانًا هو البداية الحقيقية للنجاح."
إذا كنت تسوّف، فربما لا تحتاج لإجبار نفسك على العمل، بل لفهم أعمق لما تشعر به. الخوف من الفشل لا يجب أن يكون قيدًا، بل يمكن أن يتحول إلى دافع إذا عرفنا كيف نصادقه. لا تدع الخوف يمنعك من التقدم—بل اجعله دليلك إلى ما يهمك حقًا. فقط عندما نواجه مشاعرنا بصدق، نستطيع أن نتحرّك بحرية نحو أهدافنا.

 

مقالات ذات صلة

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Please note, comments must be approved before they are published