أهم ثلاث خطوات للتعامل مع التسويف
مسار السعادة الخامس: الإنجاز وتحقيق الأهداف

أهم ثلاث خطوات للتعامل مع التسويف


التسويف ليس مشكلة بقدر ما هو دعوة للفهم


نحن لا نختار التسويف، بل نتعثر فيه. تمرّ علينا لحظات نشعر فيها بثقل المهمة، فيغمرنا شعور داخلي غريب يجعلنا نؤجل، ثم نؤجل، ثم نستسلم للفكرة بأننا "لسنا جاهزين بعد". هذه التجربة ليست غريبة عن معظم الناس، بغض النظر عن خلفياتهم أو مجالات عملهم. التسويف ظاهرة نفسية معقّدة تتجذر في العقل، وتستحق منا فهمًا أعمق لا جلدًا للذات أو اللجوء إلى محاولات عشوائية للتغيير.

غالبًا ما يُفهم التسويف على أنه كسل، لكن الأبحاث العلمية تخبرنا بخلاف ذلك. التسويف، في الحقيقة ما هو إلا استجابة انفعالية داخلية. عندما نواجه مهمة نراها صعبة أو نخشى أن نفشل فيها، يختار دماغنا الهروب منها، بحثًا عن راحة مؤقتة، حتى لو كلّفنا ذلك الكثير لاحقًا. وهنا، تبدأ حلقة مفرغة من التأجيل، والشعور بالذنب، ثم تأجيل آخر. في هذا المقال، سنرشدك عبر ثلاث خطوات عملية، مدروسة، وقائمة على أبحاث نفسية موثوقة، تساعدك على كسر هذه الحلقة وتستعيد زمام المبادرة في حياتك.

 الخطوة الأولى: فهم مشاعرك قبل المهمة

 

الخطوة الأولى تبدأ من الداخل، بفهم أعمق لنفسك. متى تتساهل مع المهام؟ هل هو في الصباح الباكر أم بعد الغداء؟ ما هي المشاعر التي تراودك قبل أن تؤجل شيئًا؟ الإجابة غالبًا لا تكون واضحة في البداية. لكن الدراسات النفسية أظهرت أن التسويف يرتبط بمشاعر مثل القلق، وتدني احترام الذات، والخوف من الفشل. في دراسة نُشرت في "Journal of Behavioral Therapy"، وُجد أن الأشخاص الذين يعانون من القلق أو لديهم تاريخ من جلد الذات الحاد يميلون للتسويف أكثر من غيرهم، ليس لأنهم لا يريدون الإنجاز، بل لأنهم يخشون التعرّض لمشاعر سلبية أثناء العمل.

تخيّل طالبًا لديه ورقة بحث مهمة، لكنه بدلاً من البدء فيها، يقضي ساعات في ترتيب مكتبه أو تصفح هاتفه. في هذه اللحظة، هو لا يهرب من المهمة بقدر ما يهرب من مشاعره حيالها. إدراك هذا الجانب من التسويف يفتح لنا نافذة جديدة: بدلاً من الحكم على أنفسنا، يمكن أن نبدأ برحلة تعاطف وفهم.
"ما تفعله اليوم لن يطوّرك الآن فقط، بل سيحسّن أيامك القادمة أيضًا." 
رالف والدو إيمرسون                                                                                                      

 

 الخطوة الثانية: البدء بالخطوة الأسهل

 

بعد هذا الفهم، ننتقل إلى الفعل. لا يحب العقلُ الغموض أو الأهداف غير المحددة. لهذا السبب، تفشل القوائم الطويلة أحيانًا، لأنها ترهق الذهن وتغيب عنها الأولوية. الحل هو تقسيم المهام. عندما نقسم المهمة إلى أجزاء صغيرة وواقعية، نشعر بتحكم أكبر. هناك قاعدة شهيرة في علم النفس السلوكي تُعرف بـ"قاعدة دقيقتين"، تعني ببساطة: ابدأ بشيء لا يستغرق أكثر من دقيقتين. فتح الحاسوب، كتابة العنوان، إعداد مكان العمل... كل هذه خطوات بسيطة لكنها تُحدث فرقًا كبيرًا.

لماذا؟
لأن الدماغ يبدأ بالدخول في "وضع الإنجاز" بمجرد اتخاذ خطوة أولى. مثال صغير: شخص يريد كتابة مقال من 1000 كلمة، لكنه يشعر بالضغط. بدلًا من التفكير في العدد الكامل، يمكنه فقط أن يقول: "سأكتب المقدمة الآن." وما يحدث غالبًا هو أن هذه البداية تولّد زخمًا داخليًا يدفعه لمواصلة الكتابة أكثر مما توقع.

 الخطوة الثالثة: اربط المهمة بهدف ذاتي

 

لكن لماذا نقوم بهذه المهام أصلًا؟ هنا تكمن الخطوة الثالثة، والتي كثيرًا ما نغفلها: المعنى. تشير الدراسات إلى أن المهام التي نراها مرتبطة بهدف شخصي أو قيمة عليا تصبح أقل عرضة للتسويف. نحن نؤجل ما لا نفهم سبب أهميته. لو كنت تعمل على مشروع تشعر أنه مفروض عليك، ستجد نفسك تماطل باستمرار. لكن إذا أعدت ربط هذا المشروع بهدف شخصي، مثل تعلّم مهارة جديدة أو بناء مسار مهني يناسب طموحاتك، سيتغيّر شعورك تجاهه. تخيل أنك تعمل على دراسة لأنك تريد في المستقبل مساعدة مجتمعك أو بناء حياة أفضل لعائلتك. هذا الربط الداخلي يصنع فارقًا هائلًا. ولأنه لا يمكن دائمًا أن نغيّر المهام المفروضة علينا، يمكننا أن نغيّر زاوية رؤيتنا لها، بأن نربطها بهدف أوسع يخدمنا.


خطوة صغيرة هي بداية لتغيير كبير

 

التعامل مع التسويف لا يعني أن نتحول إلى أشخاص مثاليين لا يخطئون أبدًا، بل يعني أن نطوّر وعينا، ونصبح أكثر لطفًا مع أنفسنا حين نخطئ، وأكثر حكمة في اختيار طريقتنا في العمل. كل واحد منا يمر بلحظات ضعف، لكن المهم أن نعرف كيف نعود، كيف نبدأ من جديد، وكيف نبني لأنفسنا نظامًا يساعدنا لا يعقّدنا. التسويف ليس مشكلة وقت، بقدر ما هو مشكلة عاطفية، تتعلّق بمشاعرنا تجاه المهام، وتجاه أنفسنا. حين نفهم هذا البُعد، تتبدل نظرتنا من جلد الذات إلى التعاطف مع الذات. وحين نتعلم كيف نبدأ بخطوة صغيرة، وكيف نربط أهدافنا اليومية بقيمنا الأعمق، نحوّل عملنا إلى رحلة ذات معنى. وكل مرة نُنجز فيها مهمة صغيرة كنا نؤجلها، نحن لا نتقدّم فحسب، بل نُعيد تشكيل هويتنا: نصبح أشخاصًا نثق بأنفسهم أكثر، وننظر للمستقبل بروح إيجابية.

"ما تفعله اليوم لن يطوّرك الآن فقط، بل سيحسّن أيامك القادمة أيضًا." 
رالف والدو إيمرسون  



هل ستتخلص من التسويف تمامًا بعد قراءة هذا المقال؟
ربما لا. لكنك بالتأكيد تملك الآن أدوات جديدة، وفهمًا أعمق، وخطوات مجرّبة.
هذا هو الفارق الحقيقي. فكل تغيير عظيم يبدأ بفكرة، ويُبنى بالفعل المتكرر، ويُثبت بالنية الصادقة. ابدأ اليوم. لا تنتظر الشعور المثالي أو المزاج الكامل. ابدأ بخطوة واحدة – صغيرة – وراقب كيف يتغير كل شيء من حولك. صدّق أن التغيير ممكن، ليس لأنك خارق، بل لأنك إنسان واعٍ، يختار أن يقوم بفعل - مهما كان صغيرًا - ورغم الصعوبات أو غياب الحماس

ماذا تنتظر، لا تسوّف أكثر، وابدأ بقراءة الكتاب الآن 

مقالات ذات صلة

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Please note, comments must be approved before they are published