القرار ... بين العزيمة والتنفيذ؟
كتابة قرار أو التوقيع عليه هو لحظة فارقة، خاصة حين نعرف أن هناك نتيجة سيتم تنفيذها بناء عليه. هنا سيتحول القرار من أمر عزمنا عليه إلى قرار نهائي سيُكتب ويُؤرشف ليتم تقييمه لاحقًا. بالنسبة للقضاة مثلًا، القرار ليس مجرد رأي مهني، بل وثيقة تحدد مصير أشخاص، وتُقرأ بعين القانون، والعدالة، والجمهور، وربما التاريخ. لكن المفارقة أن لحظة الكتابة لا تأتي بسهولة. كثير من القضاة والمحامين وغيرهم من أصحاب المهن الحاسمة يواجهون ظاهرة مؤلمة وموثقة: تأجيل كتابة القرار، رغم أنه تم اتخاذه داخليًا. في هذا السياق كتب القاضي المتقاعد بيتر مكويشلان مقاله الصريح في Slaw، معترفًا بأنه – رغم خبرته الواسعة – كان يُسوف مرارًا كتابة أحكامه القضائية. لكنه لم يكن يسوّف لأنه لا يعرف ما قراره، بل لأنه كان يخشى مسؤولية ترجمة القرار إلى كلمات. تُسلّط هذه التدوينة الضوء على هذه الظاهرة الهامة، ويمنحنا أدوات عملية لفهمها وللتعامل معها.
لماذا نؤجل تنفيذ قرار عزمنا عليه؟
يشرح مكويشلان ببساطة أن المشكلة لم تكن في عدم اتخاذ القرار، بل في كتابته. يقول: "كنت أعلم النتيجة، لكني لم أكن أكتبها". هذا ما يسميه علم النفس بـ"فجوة الترجمة": بين ما نعرفه داخليًا، وما نعبر عنه خارجيًا. في لحظة ما، تتحول المهمة من "قرار داخلي" إلى "تعبير خارجي"، وعندها يبدأ التسويف. الكتابة، كما يصفها، تتطلب وضوحًا، منطقًا، وسردًا. ولكنها أيضًا تتطلب شجاعة. لأن القرار المكتوب نهائي، وقد يُراجع ويُنتقد. هذه الرهبة، حتى عند القضاة، تجعل البداية صعبة. التأجيل يصبح وسيلة لا واعية للهروب من القلق، لا من الجهل.
لهذا، فالسؤال ليس: "هل تعرف القرار؟"، بل: "هل أنت مستعد لتحمله علنًا؟".
كلما كانت الكلمة أقوى، زاد التردد في كتابتها
ما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا هو أن القرارات التي يتم تأجيلها غالبًا ما تكون الأهم. هناك مفارقة عميقة: نحن نؤجل القرارات التي تهمّنا أكثر. لأن هذه القرارات محمّلة بالمعنى، والمسؤولية، والعواقب!
القاضي الذي يعرف أن قراره سيؤثر على حياة شخص، أو مستقبل قضية معقدة، يشعر بثقل مختلف. ليس لأن القرار صعب منطقيًا، بل لأنه ثقيل نفسيًا. نحن نكتب قراراتنا، لكننا في الوقت نفسه نكشف عن أنفسنا: عن رؤيتنا، قيمنا، وتفسيرنا للحقائق. هذا يجعل فعل الكتابة نفسه مرهقًا. فكل كلمة تصبح موضع تحليل، وكل سطر يمثل التزامًا. والمحصلة؟ نُسوّف، لأننا نعتقد (بلا وعي) أن التأجيل سيحمينا من خطأ محتمل، أو من نقد محتمل.
الكتابة كمواجهة: لماذا نخاف من الورقة البيضاء؟
يوضح مكويشلان أن ما كان يخشاه حقًا هو البدء. كانت الفكرة حاضرة، لكن الورقة البيضاء كانت تحمل رهبة. يبدأ العقل في طرح أسئلة مقلقة: هل هذا الأسلوب مناسب؟ هل العرض منطقي؟ ماذا لو قرأه أحدهم ووجد فيه خللًا؟ هذا النوع من التسويف لا علاقة له بالكسل. بل هو دفاع نفسي أمام ما نسميه في علم النفس بـ"الكتابة المكشوفة" – أي أن ما تكتبه يُظهرك. أنت لا تصوغ كلمات فقط، بل تصوغ نفسك من خلالها.
النتيجة؟
تردد. مراجعة متكررة. تأجيل. وكلما زاد التردد، زاد الضغط، وبدأت المهمة البسيطة تتحول إلى جبل نفسي يصعب تسلقه.
التسويف لا يخفف العبء، بل يضاعفه
الأمر المثير الذي يذكره الكاتب هو أن التأجيل لا يشعرك بالراحة، بل بإرهاق إضافي. فبينما كان يؤجل الكتابة، كان القرار يدور في رأسه باستمرار. لم يكن حرًا من المهمة، بل محاصرًا بها ذهنيًا. في علم الأعصاب، نعرف أن الدماغ يحتفظ بالمهام غير المكتملة كعبء معرفي. أي أنك تستنزف طاقتك الذهنية حتى وإن لم تبدأ فعليًا. وكل يوم تأجيل يُضاعف من شعور الذنب، ويجعل العودة للمهمة أصعب.
الحل؟
البدء. حتى وإن كانت البداية بسيطة أو غير كاملة. مجرد الجلوس والكتابة يُفرغ التوتر، ويعيد لك الإحساس بالسيطرة.
خطوات لإنهاء تسويف كتابة وتنفيذ القرارات الهامة
يشارك مكويشلان مجموعة من الاستراتيجيات العملية التي ساعدته، ويقترح تطبيقها على أي شخص يواجه صعوبة في اتخاذ قرار مكتوب:
-
اكتب فقرة واحدة فقط بدلًا من كتابة كل القرار دفعة واحدة.
-
فصل مرحلة التفكير عن مرحلة الكتابة، فالخلط بينهما يزيد الضغط.
-
اكتب المسودة بحرية، ثم راجعها لاحقًا. التحرير عقب التعبير.
-
لا تنتظر الإلهام، بل استدعه بالفعل. الحافز يأتي بعد البدء، لا قبله.
- سامح نفسك على التأجيل، وابدأ من جديد دون لوم.
كل هذه الأدوات ليست حيلًا إنتاجية، بل طرق إنسانية لتجاوز مقاومة داخلية حقيقية.
القرار غير المكتوب لا يحميك… بل يقيّدك
في نهاية مقاله، يقول مكويشلان إنه تمنى لو فهم هذه الأمور في بداية مسيرته القضائية. لأنه أدرك – كما يدرك كل من يسوّف – أن القرار غير المكتوب لا يمنحك راحة، بل يسرق طاقتك يومًا بعد يوم. التسويف، في جوهره، ليس كسلًا. بل هو علامة على أن العقل يواجه قلقًا أو خوفًا أو مسؤولية لم يستوعبها بعد. لكن الحل لا يكون بالهروب، بل بالمواجهة التدريجية. عبر البدء، ولو بسطر واحد.
في المرة القادمة التي تجد نفسك تؤجل قرارًا تعرفه داخليًا، تذكّر: الوضوح لا يأتي من الانتظار، بل من الفعل.
لتعرف أكثر عن التسويف، وكيفية تنفذ قراراتك الحاسمة، اشترِ كتاب حل لغز التسويف الآن