ستة أسباب علمية وراء قيامك بالتسويف
مسار السعادة الخامس: الإنجاز وتحقيق الأهداف

ستة أسباب علمية وراء قيامك بالتسويف


ما الذي يدفعنا إلى التسويف رغم صدق نيتنا بإنهاء المهمة؟

 

كلنا نُسوّف. نخطط ونؤجل. نؤمن بأهمية المهمة ثم نؤجلها ليوم آخر. نتمنى الإنجاز، لكننا نؤجل حتى الأمور التي نرغب بصدق في تحقيقها. ورغم محاولاتنا المستمرة في ضبط الوقت، ووضع الجداول، وتحميل تطبيقات الإنتاجية، إلا أن النمط ذاته يتكرر.
والسؤال الجوهري ليس: "كيف أنجز أكثر؟"، بل "لماذا لا أبدأ؟".
ما الذي يحدث داخل العقل لحظة اتخاذ القرار؟ ولماذا نؤجل المهمة رغم معرفتنا بقيمتها؟ 
التسويف ليس مجرد عادة سيئة أو ضعف إرادة، لكنه نتيجة تفاعلات نفسية معقّدة بين مشاعرنا، وطريقة تفكيرنا، والرسائل التي نوجّهها لأنفسنا دون وعي. ستتعرف في هذا المقال على هذه التفاعلات، وسنعرض لك ستة أسباب رئيسية مثبتة علميًا للتسويف، وكيف يمكننا أن نغيّر هذا النمط بلطف ودون جلدٍ للذات، بل بالتعاطف مع الذات.

 

١- القيادة للعاطفة: عندما تتولى المشاعر زمام الأمور

في اللحظة التي نفكر فيها ببدء مهمة ثقيلة أو مملة أو حتى مربكة، يتدخل الجزء العاطفي في الدماغ قبل الجزء المنطقي. لا يُقيّم العقل المهمة من زاوية فائدتها المستقبلية، بل من زاوية مشاعرنا تجاهها الآن، وهذا ما يجعل منطقة "اللوزة الدماغية" تنشط باعتبار المهمة تهديدًا نفسيًا يستدعي الهروب. لهذا نجد أنفسنا نُؤجل المهمة بشكل شبه تلقائي، ونبحث عن أي نشاط يمنحنا راحة مؤقتة، كتصفح الهاتف أو إعداد وجبة خفيفة. هذه الاستجابة ليست كسلًا، بل آلية دفاعية ينفذها الدماغ لتجنّب الألم العاطفي، حتى وإن كان بسيطًا. مثلًا، طالب على وشك كتابة مشروع تخرجه قد يشعر بالتوتر عند فتح الملف، فيبدأ في تصفح إنستغرام. هذا الهروب اللحظي يُعطيه شعورًا مؤقتًا بالسيطرة. لكن لو فهمنا أن هذه المقاومة العاطفية طبيعية، يمكننا كسرها بخطوة صغيرة، مثل العمل لخمس دقائق فقط. حينها تبدأ العاطفة بالهدوء والمنطق بالتقدم، ونكسر أولى حلقات التسويف.

 

٢- الكمالية: عندما يصبح الطموح عائقًا

رغم أن الكمالية تُفهم عادة على أنها دافع للتميّز، إلا أنها من أبرز أسباب التسويف وأكثرها خداعًا. الكمالي لا يبدأ العمل إلا إذا ضمن النتيجة المثالية، وإن شعر بعدم اليقين، فإنه يُفضّل التأجيل. وهذا السلوك ينبع من خوف داخلي من الفشل أو الانتقاد أو حتى النجاح الذي لا يرتقي لتوقعاته العالية. أظهرت دراسات عديدة، مثل دراسة جامعة York، أن الكماليين يؤجلون أكثر من غيرهم. مثلًا، موظفة موهوبة تُخطط لتقديم عرض رائع لكنها تؤجل لأسابيع لأن الفكرة لم تكتمل في ذهنها بعد. النتيجة؟ ضغوط متراكمة وإنجاز في اللحظة الأخيرة. التحرر من الكمالية يبدأ بقبول "التحسّن التدريجي"، والبدء بما هو متاح حاليًا. فكل إنجاز كبير بدأ بخطوة صغيرة، لم تكن مثالية، لكنها كانت كافية لتفتح الطريق.

 

٣- انتظار الحافز: الوهم الذي يؤجل الإنجاز

من الأفكار الشائعة التي تُعيق التقدّم أننا ننتظر الشعور بالحافز كي نبدأ. نقول: "سأبدأ حين أشعر أنني مستعد" أو "عندما أكون في مزاج مناسب"، لكنها جُمل تخدعنا. يؤكد علم النفس أن الحافز لا يسبق الفعل، بل يتولد من خلاله. فعندما تبدأ بأي عمل صغير، يشعر الدماغ بالإنجاز ويُفرز الدوبامين، مما يُشجعك على الاستمرار. هذه هي الظاهرة المعروفة بـ"زخم البداية". كثيرًا ما نجد أنفسنا غير متحمسين قبل مهمة ما، ثم نكتشف بعد بضع دقائق من البدء أننا مندمجون ونرغب في الاستمرار. لذلك، لا تنتظر الحافز كي تبدأ، بل اسمح للفعل أن يُولّده. تقنية "خمس دقائق فقط" تعمل كالسحر: ابدأ دون التزام كبير، فقط دقيقة أو دقيقتين، وغالبًا ستجد نفسك تستمر أكثر بكثير مما توقعت.

 

٤- الغموض: الضباب الذي يغشى المهام

أحيانًا نُسوّف لأن المهمة ببساطة غير واضحة بما فيه الكفاية. عندما ننظر إلى مهمة عامة أو غامضة، يتعامل الدماغ معها كما لو كانت معقدة أو مخيفة، فيدفعنا لتأجيلها. مثلًا، مهمة مثل "ابدأ مشروعك" تبدو ثقيلة وغير قابلة للقياس، لكن "افتح مستندًا جديدًا واكتب عنوان المشروع" تبدو بسيطة وممكنة. هذا يُعرف في علم النفس بتأثير "الغموض المعرفي"، حيث يترجم الدماغ المهمة غير المحددة إلى عبء نفسي. التجزئة والتوضيح تُزيل هذا العبء. بدلًا من محاولة إنجاز كل شيء دفعة واحدة، قسّم المهمة إلى خطوات صغيرة. هذه الخطوات تمنحك شعورًا بالسيطرة وتفتح باب الإنجاز دون مقاومة داخلية.

 

٥- التأنيب: الحاجز الذي يحول بينك وبين هدفك

الكثير من الناس يقعون في فخ جلد الذات بعد كل مرة يُسوّفون فيها، معتقدين أن النقد الذاتي سيحفزهم. لكن الواقع عكس ذلك تمامًا. فالتحدث مع النفس بقسوة يُنتج شعورًا بالذنب والإحباط، يدفعك لتأجيل المهمة أكثر. هذا يُخلق دائرة مفرغة: تسويف، ذنب، جلد ذات، ثم مزيد من التسويف. دراسة من جامعة Carleton وجدت أن الأشخاص الذين يُظهرون رحمة لأنفسهم بعد التأجيل، يكونون أكثر قدرة على العودة والإنجاز. أن تقول لنفسك: "تأخرت، لكن لا بأس، سأبدأ الآن" هو ما يمنحك الأمان العاطفي اللازم للتحرك. الرحمة ليست ضعفًا، بل شرط أساسي لبناء عادات مستدامة وإنجاز صحي.

 

٦- غياب الحافز: ضعف الارتباط العاطفي بالمهمة

أحيانًا لا نُسوّف لأننا نخاف الفشل أو لأن المهمة غامضة، بل لأننا لا نشعر أن لها معنى بالنسبة لنا. المهام التي لا نرى فيها قيمة شخصية أو علاقة بأهدافنا تميل لأن تكون مملة وسهلة التأجيل. الدماغ البشري يحتاج إلى "معنى" كي يتحرك. إن لم يرَ المهمة مرتبطة بشيء يهتم به، يُهملها مهما كانت بسيطة. مثال على ذلك: موظف يُطلب منه تقرير عن منتج لا يدرك أهميته ولا يهتم لأجله، فيؤجل المهمة مرارًا رغم سهولتها. لكن حين يعيد ربطها بهدفه المهني، كالحصول على ترقية أو تطوير مهارة، يبدأ في الشعور بقيمة ما يفعل. إعطاء المهمة معنى شخصيًا ليس رفاهية، بل هو محفز داخلي يجعل الإنجاز طبيعيًا وممتعًا.

 

 ما وراء التسويف... فهم الذات وبداية التغيير

التسويف ليس كسلًا ولا ضعفًا، بل رسالة داخلية تحتاج إلى فهم. خلف كل تأجيل هناك شعور لم يتم التعبير عنه، أو فكرة غير واضحة، أو رابط مفقود بين العمل وبين من نحن حقًا. عندما نتوقف عن محاربة أنفسنا، ونبدأ في الاستماع إلى ما يدور في داخلنا بلطف، نكتشف أن التغيير لا يحتاج إلى قوة خارقة، بل إلى وعي وإنسانية. كل سبب استعرضناه في هذا المقال هو فرصة لفهم أعمق، وإعادة بناء علاقتك بالإنجاز على أساس أكثر صحّة وهدوءًا. ابدأ بخطوة صغيرة، ولو جملة واحدة فقط، فربما تكون هي بداية الإنجاز الكبير الذي تؤجله منذ زمن.

 


اعرف أكثر عن التسويف، وتعلّم تطبيقات عملية سهلة من كتاب حل لغز التسويف

مقالات ذات صلة

شارك بالتعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني. الخانة المشار إليها مطلوبة *

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها